21/04/2020
"شرح قصيدة مديح الظل العالي" للشاعر محمود درويش رحمه الله:
كم كنت وحدك، يا بْنَ أمي
يا بن أكثر من أبٍ
كم كنت وحدك.
القمح مرٌّ في حقول الآخرين
والماء مالح
والغيم فولاذ، وهذا النجم جارح،
وعليك أن تحيا وأن تحيا
وأن تعطي مقابل حبة الزيتون جلدك
كم كنت وحدك
لا شيء يكسرنا، فلا تغرق تماماً
في ما تبقى من دمٍ فينا ..
لنذهب داخل الرَّوح المحاصر بالتشابه واليتامى
يابْنَ الهواء الصُّلب، يابْنَ اللَّفظة الأولى على الجُزُر القديمه،
يا بن سيدة البحيرات البعيدة، يا بن من يحمي القُدامى من خطيئتهم،
ويطبعُ فوق وجْه الصَّخر برقاً أو حِماما
لحْمي على الحيطان لحمُك، يا بن أُمي
جسدٌّ لأضراب الظلال
وعليك أن تمشي بلا طرق
وراءً، أو أماماً، أو جنوباً أو شمالْ
وتُحرِّك الخُطوات بالميزان
حين يشاء من وهبُوك قيْدَك
ليزيِّنوك ويأخذوك إلى المعارض كي يرى الزوار مجدك
كم كنت وحدك
هي هجرةٌ أخرى...
فلا تكتب وصيتك الأخيرة والسلاما
سقط السُّقوط، وأنت تعلو
فكرةً
ويداً
و.. شامَا ..
لا برَّ إلا سَاعِداك
لا بَحْر إلا الغامضُ الكِحْلي فيك
فتقمَّص الأشياء كي تتقمّص الأشياء خطوتك الحراما
واسحب ظلالك عن بلاط الحاكم العربي حتى لا يُعلِّقها
وساما
واكسر ظلالك كُلَّها كيلا يمدوها بساطا أو ظلاماً
كسروك، كم كسروك كي يقفوا على ساقيك عرْشاً
وتقاسموك وأنكروك وخبّأوك وأنشأوا ليديك جيْشا
حطُّوك في حِجْرٍ .. وقالوا : لا تُسلِّم
ورَموك في بئر .. وقالوا : لا تسلم
وأطلت حربك، يا بن أمي،
ألف عامٍ ألف عامٍ ألف عامٍ في النهار
فأنكروك لأنهم يعرفون سوى الخَطابة والفِرارْ
هم يسرقون الآن جلْدك
فاحذر ملامحهم .. وغِمدك
كم كنت وحدك، يا بن أمِّي،
يا بن أكثر من أبٍ
كم كنت وحدَكْ.
دراسة القصيدة:
تكاد الرمزية أن تكون السمة البارزة لهذه القصيدة، فالشاعر يبدؤها بهذا السؤال التعجبي المثير للتساؤل، كيف يكون الإنسان ابن أكثر من أب؟ وهو يغطي به قصده من ذلك، عندما يقابل بين انفراده ووحدته، وكثرة أبائه.
فالوحيد هو الشعب الفلسطيني الذي كنى له الشاعر، بقوله : ابن أمي، والأم هنا هي الأرض، أو فلسطين، أو وطن الشاعر، والأكثر من أب هم الحكام العرب، أو الأنظمة العربية بادعائهم تبني القضية الفلسطينية، أو تحرير فلسطين، ليعيد السؤال : كم كنت وحدك تأكيداً منه أن هذا الادعاء لا وجود له، أو أنه مجرد ادعاء كاذب.
ليكون المقطع الثاني معبراً عن آلام الغربة والتشرد، وما يلاقيه الشعب الفلسطيني ويقاسيه من صنوف العذاب، فالقمح : رمز للجوع، وعدم الهناءة، أو الشعور بمرارة الحياة في التشرد عندما تصبح لقمة العيش منَّة من الآخرين ينغصونها عليه.
وهي في واقع الأمر تعبير عن حالة القطرية المقيتة في الأقطار العربية، وتخليها عن واجبها الأخوي اتجاه المصاب الأليم الذي حلَّ بشعب فلسطين ودفعه إلى ترك أراضيه، واللجوء إلى الدول العربية الشقيقة، لكن الأشقاء لم يتحملوا مسؤولياتهم، فالماء مالح بمعنى أن الحياة صعبة وقاسية، فالماء رمز للحياة، والقمح للعيش فيها.
ورغم الجوع والآلام، فإن العدو الصهيوني لا يكتفي بذلك، ولا يدع أسباب الحياة تصيب هذا الشعب، فالغيم فولاذ، أي أنه ليس غيثاً وماء، وإنما أسراب طائرات معادية تغطي سماءهم في مخيماتهم، وهذا النجم جارح، أي الصاروخ أو القنبلة تحمل الموت، وليس نوءاً، أو برقاً يبشّر بهطول المطر وخيره، فكيف إذن يعيش هذا الشعب، فلا مساعدات، ولا يد حنونة تخفف المصاب، ولا عدو به رحمة، أو شفقة كي يدع هذا الشعب يمارس حياته فيزرع، أو يهيئ لنفسه أسباب الحياة؟
فيجيب الشاعر أن رغم كل ذلك: وعليك أن تحيا وان تحيا.
وهو في تكراره يؤكد إصرار وتصميم الشعب الفلسطيني على المقاومة والتصدي والبقاء، والتشبث بقضيته .
والثمن غالٍ جداً، فمقابل حبة الزيتون، وهو رمز لفلسطين، أو هوية الانتماء فعلى هذا الشعب أن يرتضي كل صنوف العذاب، وأن يقدم جلده للسياط التي تلهبه وتحاول أن تنال من عزيمته، أو تكسر شوكته.
وهذا قدرك أن تكون وحدك، وكم كنت وحدك؟!
فلا تخشَ شيئاً، فلا شيء يكسر هذا الصمود والتحدي، ولا تنكفئ على نفسك تحاصرك الأحزان وتغرقك في ما تبقى لنا من أسباب البقاء، فالدم رمز لحياة الإنسان وسفحه إيذاناً بالنهاية، وبقاؤه دليل على الحياة، ولتكن المأساة عزاؤنا في ترويح النفس من آلامها، فكلنا متشابهون في الآلام المختلفة، وفي فقدان أعزائنا، فهذا التشابه يوحدنا ويريحنا باشتراكنا في الهم الواحد. وأننا جميعاً مشاريع للعطاء.
وفي نظرة فاحصة إلى المقطع الرابع نجد الرمزية تأخذ بعدين، هما الحاضر، والماضي في مقابلة مؤلمة لما حل بالشعب الفلسطيني، هذا الشعب الحضاري.
فقوله: يا بن الهواء الصلب، تعبير عن تشرد الشعب الفلسطيني، وعيشه في المخيمات تحت سطوة الطبيعة وقسوتها، فالهواء الصلب، رمز للبرد القارس والبرد، رمز للتشرد التام الذي لا يجد فيه المرء ما يلوذ به، وهذا التركيب اختزن فيه الشاعر مساحة واسعة للخيال كي يصور معاناة أهلنا اللاجئين، أما الثانية فهي استحضار لماضيه العظيم لتكون كل صورة في موازة الأخرى، وللمتلقي المشاهد أن يرى الفارق .
فاللفظة الأولى على الجزر القديمة، هي اكتشاف الكنعانيين سكان فلسطين للحروف والكتابة، وهو أعظم اكتشاف عندما حوُّلوا اللغة الهيروغليفية المصرية إلى حروف، يرمز كل واحد منها لشيء، فكان ترتيبهم للحروف المعروفة بالأبجدي يقرأ في لفظه القديم، ويرمز لأشيائهم، فالألف هو (ألفا) ويرمز لرأس الثور والباء هو (بيتا) وهو البيت الكنعاني، وتلك هي الحروف التي تكتب بها أوروبا التي باعت فلسطين لشذاذ الآفاق.
أما الجزر القديمة، فهي رمز للبحارة الكنعانين، أو الفينيقين كما سماهم اليونانيون دليلاً عن لون ثيابهم القرمزي، وهم الذين أطلقوا تسميات المدن على الأبيض المتوسط حتى وصلوا أمريكا واكتشفوها من ذلك الوقت، وأخفى الغرب ذلك، وما إسبانيا التي انطلق منها البحار الإيطالي كولومبس سوى تسمية كنعانية أي (بلاد الأرانب) أطلقوها عليها أثناء استراحتهم، وهم في طريقهم إلى أمريكا، فكانت سفنهم تجوب كل مكان، وهي (سيدة البحيرات القديمة) ثم يشير الشاعر إلى تسامح بني كنعان مع اليهود الذين قدموا إلى فلسطين، وهم بالتأكيد لا يمتون بأية صلة ليهود اليوم لكن محرفي التاريخ، ومختلقي الحوادث، وذوي الذاكرة المريضة صنعوا منها حقوقاً وانتماء على حساب الحق الأصلي للشعب الذي استضافهم قبل أن يشتتهم سرجون الأكدي، ونبوخذ نصر، وتيتوس الروماني.
فالكل أذن صماء وعين عمياء عن الحقيقة، وأنت وحدك من يظهرها أو يهلك دونها، ثم ينتقل الشاعر ثانية إلى تأكيد التوحد في المأساة، فهذا التشرد وما يتبعه من قتل وتعذيب ومعاناة إنما هو قاسم مشترك للجميع كظل الجسد الواحد، وهذا هو قدرنا، فعليك أن تتابع سيرك، وإن سدت الطرق أو تاهت بك أو تهت بها، وأن تكون حذراً، أو حين يسيرك من تسلطوا عليك، وإن كان مسارك بلا مسرى واضح، وأن يكون كل شيء محسوب عليك بدقة، سيما حين يجعل منك أصحاب السلطة بوقاً لهم ينفخ فيه إعلامهم المزركش في المناسبات وإظهار بطولاتك، وهم في الواقع يضعون القيد لك، فلا تصدق، فأنت دائماً وحدك.
وهذا الرحيل من بيروت هو هجرة أخرى تضاف إلى هجراتك المتتالية منذ طردت من وطنك، فضمها إليها، ولا تيأس، فلن تنتهي، ولن تموت، فلا تكتب وصيتك، ولا تظن أن الأمر قد انتهى.
والشاعر هنا يؤكد ما قاله : لا شيء يكسرنا.
وفي هذا المقطع المعبّر عن عمق المأساة، وتصوير ما آل إليه مصير الثورة الفلسطينية نقف على انفعال الشاعر في أقصى درجاته ليصرخ من أعماقه:
بأن سقط حتى السقوط، أو بمعنى قد انكشف كل شيء، أو وصل الأمر إلى الحدِّ الذي لا يمكن توقعه.
لكنك تعلو، وهذا هو الفارق بين من يهوي إلى القاع، وبين من يصعد إلى القمة بفكره وعمله، فيغدو علامة مميزة كالشامة الجميلة، ولأنك تخالفهم في كل سلوكهم وتفكيرهم .
فالآن لا بر إلا ساعداك، أي لا عمل ولا اعتماد إلاّ على نفسك.
لا بحر إلا الغامض الكحلي فيك، وهو ما يعبر عن الفكر السياسي للشاعر، وهو الماركسي الشيوعي الذي رمز له باللون الأزرق المعبر عن زي العمال، وكأنه يرسم المطرقة والمنجل على طريقته، ووفق عقيدته لينطلق إلى إسداء النصيحة للثوار، أن انتبهوا إلى ما يحيط بكم، وما يخطط لكم، فعليكم أن تغيروا أسلوب نضالكم وعملكم، وان تكون السرية، وعدم الثقة أهم خطواتكم.
ثم عليكم أن تنفضوا أيديكم من الحاكم العربي، وترفعوا الستار الذي يغطي حقيقته ويدلّ على شعبه بادعائه حمايتكم.
فالشاعر هنا بألفاظه وجمله المركزة يختزن كماً هائلاً من المعاني التي يمكن للمتلقي أن يستخرجها من أعماق النص، أو مما هو وراء الألفاظ، كقوله:
كسروك، كم كسروك، ولكن لأجل ماذا ؟ كي يصنعوا من ساقيك عرشاً لهم بمعنى أن قضيتك هي التي تمنحهم الوقوف على أقدامهم أي قوة البقاء في الحكم ويوضح ذلك حين يصور الثورة مشلولة الحركة، لا تحملها قدماها، سوى يديها التي تصفق للحاكم العربي أو بمعنى تدفع شعبه للتصفيق له ، وتصديق إعلامه، أو كما نقول إنما هو تهريج بلا فعل، ما داموا كسروا الساقين، فماذا بقي لليدين؟!!
وهم الذين أوصدوا عليك الباب، ورموك في بئر وقالوا لك : لا تسلم فهم ألقوه مكتوفاً في اليم، وقالوا له إياك إياك من الغرق؟
وتلك توطئة للواقع الذي جرى اختارها محمود درويش بذكائه العالي :
فرغم كل ما حلَّ بالثورة الفلسطينية، وشدة المؤامرات، وتعدد أساليبها حتى ظهن العدو المكشوف وغير المكشوف أن القضاء عليها سيكون سريعاً، قبل أن تنتهي مدة التشاور، والاتفاق على مكان وزمان القمة، وما يصدر عنها، لكن المفاجأة كانت في هذا الصمود العظيم، فكان النهار كألف عام، بمعنى أنه شبيه بأيام الله في الآخرة فهو بألف يوم مما يعدّ البشر، أو كخمسين ألف سنة، فالشاعر عنا يعبر عن ضراوة ما لاقاه العدو الصهيوني في اجتياح لبنان عام 1982م.
فراح يعرض بموقف الزعماء العرب، واستنكارهم وإنكارهم لهذا الصمود، وليس عجيباً، أو غريباً منهم فهم لا يعرفون سوى الهزائم في الحروب، والخطابة في السلم.
ولكن حذار، فهم الآن يتآمرون عليك بأسلوب آخر، وسيأتون إليك من داخلك من أبناء جلدتك ليحدثوا فتنة في وحدة الصف الفلسطيني، فدقق جيداً في الملامح، وفتش كل شيء، ولا تترك مخبأ حتى وإن كان لسيفك أي أقرب شيء إليك، ولا غرابة لأنك وحدك، والآخرون مدعون.
وبإعادة الافتتاح يختم الشاعر قصيدته .
ورغم أن هذه القصيدة اعتمدت الرمزية إلا أنها لم تكن رمزية مختلقة، أو هي الرمزية للرمزية لا يُفهم منها شيء، وإنما كانت رمزية دالة منحت القارئ القدرة على قول أكثر ممّا قاله الشاعر فيها، ولعمري تلك هي البراعة، وهذا هو الإبداع حتى وإن كان المتلقي لا يتفق مع أفكار الشاعر، أو ربما يختلف معه لكنه بالتأكيد سينفعل ويتفاعل معه.
فالمقطع الأخير كان المعادل الموضوعي حين أفصح الشاعر عن قصده من تلك الومضة التي افتتح بها قصيدته: كم كنت وحدك، ثم قوله يا بن أمي يا بن أكثر من أب، ليستفيض فيما بعد بذكر الأسباب الموجبة لها، إذْ بدت القصيدة موحدة عضوياً عندما دفعت أفكارها بعضها بعضاً لتوصل المتلقي إلى ما يريده الشاعر.
إن التجربة الشعرية لمحمود درويش تسعفه في بناء قصيدته وقدرته على السيطرة على أفكاره وتسلسلها، ومن ثم شحنها بالعواطف المناسبة لها ليذكي بها أحاسيس ومشاعر المتلقي، ويفجر انفعاله العاطفي، وتفاعله الذهني معه.
وأخيرا: (لا تنسوا الدعاء لنا بالتسديد والعافية والنجاح علها تكون ساعة استجابة وبالرحمة والمغفرة لروح الشاعر العظيم محمود درويش رحمه الله).