07/01/2025
لعل هاتين الآيتين من سورة الكهف: { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } -
( 103- 104)
هما من أصعب الآيات على المؤمنين عموما، حين يتفقد أحدهم نفسه ويراجع إيمانه وإخلاصه لله تعالى؛ فالمؤمن مطالَب بتفقد إيمانه ونيته، تماما كما يتفقد جسده وماله.
هما آيتان مخيفتان تهددان كل واحد منا؛ فقد يكون كل عمله غير مقبول، وهو يظن أنه يفعل الصحيح من القول والعمل. وهما لا تتحدثان عن الخسران فقط، بل الأشد خسارة، ويا له من موقف محرج حين يقف أمام الخلائق، يظن نفسه قد عمل خيرا، وإذا به مسرف في الخسران، فقد ضل سعيه، والضلال ضد الهدى، وكان يسير في الدنيا خبط عشواء، مكبا على وجهه، لا يهمه التحري والتأكد.
هي سورة الكهف التي تحدثت عن قصص نادر في القرآن لم يتكرر، تعالج أولها الفتنة في الدين، وما هو مطلوب من ثبات ويقين بالله تعالى؛ فكانت قصة أهل الكهف. ثم فتنة المال، وقصة صاحب الجنتين وجشعه وغروره وبغيه، وما ينبغي أن يكون عليه الإنسان عموما والغني خصوصا من تواضع. فالمال لله، وأنت مستخلف فيه، وهو فتنة لك لتشكر الله تعالى عليه فتزكيه وتتصدق منه.
يأتي الحديث عن الآخرة، والنفخ في الصور وجمع الخلائق، وعرض جهنم على الكافرين الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكر الله، وأسماعهم معطلة عن الحق. وحينها يأتي الحديث عن الأخسرين أعمالا؛ هؤلاء الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا. ومرة أخرى، فإن مدلول الضلال مهم، لأنهم لا تعنيهم حياتهم ولا دينهم ولا مصيرهم القادم الدائم، والأنكى من ذلك أنهم يقنعون أنفسهم بأنهم يحسنون صنعا؛ فهم الذين كفروا بآيات الله ولقائه، واضح منهم الاستهزاء وضعف العزيمة الحقيقية التي من خلالها ينتبهون إلى حقيقة أمرهم، فقد تبلدت أحاسيسهم وانطفأت جذوة الإيمان في قلوبهم، ولن يكون هذا إلا عقوبة على أمور فعلوها، وأهمها سوء ظنهم بالله تعالى.
ولم تترك الآيات المؤمنين في حيرة من أمرهم أمام هذه الأوصاف المخيفة لهذه الفئة، فهم الذين كفروا بآيات الله ولقائه، وجزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آيات الله ورسله هزوا. فالأمور ليست طارئة عليهم، بل هم منخرطون في سلسلة من الاعتقادات والأعمال التي أوصلتهم إلى هذا الحد.
والعجيب في الآية هو ذكر أنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. أجل، فإن هؤلاء من غرورهم يزعمون أنهم مصلحون محسنون مؤمنون، هكذا يروّجون لأنفسهم. والمصيبة ليست فيهم، بل فيمن يصدقهم، ممن يرون السراب ماءً، ينقادون وراءهم مطأطئين رؤوسهم. فالقوم واضحة أعمالهم وحججهم السخيفة، والعتب ليس عليهم، بل على من يعمي عينيه وقلبه عن مشاهدة أخطائهم، فهذا لا بد أن ينتهي، ولا بد أن نقطع مرحلة في إزالة الغشاوة عن الأعين، وأن نرى ببصائرنا، ونعرض الأقوال والأفعال على كتاب الله وسنة رسوله ﷺ.
ومن رحمة الله تعالى أنه بعد أن أرشد لكل هذا، فإنه يبين لنا الخلاص والنجاة في آخر آية من السورة، فقال: { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } (الكهف : 110)؛ وهما شرطا قبول الأعمال عند الله: الصواب والإخلاص.
الصواب، بأن يكون موافقا لما في هذا الدين، من قرآن أو سنة، وفق ما فعله الرسول ﷺ. فإن كان من الأمور المستجدة، فوفق المرجعية الإسلامية العامة. فأصول الدين ومقاصد الإسلام واضحة المعالم محددة الغايات. أما الأمر الثاني، فهو الإخلاص لله تعالى؛ فكل سكنات المسلم وحركاته ينبغي أن تكون لله تعالى، يبتغي بها وجه الله تعالى، وحينها يكتب الله له المباحات حسنات، ويا له من أجر عظيم.